vendredi 18 février 2011

الميلاد …!

الميلاد …!






( 1 )

على مدى الأشهر الثلاثة المنصرمة كان الشعب العربي بين المحيط والخليج مشدوداً بقوة إلى المشهد الملحمي في تونس ومصر ، وربما كانت الأعصاب العربية خارج مصر وتونس أكثر توتراً بما لايقاس ،ذلك أن عرب تونس ومصر كانوا مشغولين طوال الوقت في صناعة الحدث، وإبداع الأساليب المناسبة لمواجهة آلة القمع الإستبدادية ، وبالتالي كانوا على دراية موضوعية بمدى تقدمهم وتقهقر القوى الإستبدادية التي كانت إلى ماقبل أسابيع قليلة تثير الرعب والخوف في النفوس إلى درجة تسويق مقولة أن أجهزة القمع تلك لاتقهر ، وأن النظم التي تنعم بحماية تلك الأجهزة لايصيبها الوهن ، وأن الشعب العربي محكوم عليه بأحكام مؤبدة من قبل حكام مؤبدين يملكون البشر والحجر يرددّون بعبارات معاصرة ماقاله الخديوي توفيق في ميدان قصر عابدين جواباً على مطالب أحمد عرابي ورفاقه في 9 سبتمبر عام 1881 : “ كل هذه الطلبات لاحق لكم فيها ، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا “ ، وبالمناسبة فإن طلبات الشعب والجيش التي تقدم بها أحمد عرابي يومها هي ذات طلبات هذه الأيام ، وقد جاء جواب الشعب العربي في ميادين الحرية سواء في تونس ، أو في مصر هذه الأيام يحمل ذات المعاني التي حملها جواب أحمد عرابي على خديوي تلك الأيام الغابرة حيث كان رد أحمد عرابي على الخديوي : “ لقد خلقنا الله أحراراً ، ولم نخلق تراثاً ولا عقاراً … فوالله الذي لا إله إلا هو أننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليو م “ .

( 2 )

الآن ، وقد تمكن الشعب العربي في تونس ومصر من تجاوز العتبة الفاصلة بين الاستبداد والحرية لابد من التوقف أمام هذا المشهد ثلاثي الأبعاد :

البعد الأول : استخلاص الدروس من التجربتين النضاليتين الثوريتين ،وهي كثيرة لاتحصى لكن جميع تلك الدروس على تنوعها وعظمتها تتفرع من عنوان أساسي هو المواطنة فعندما تجاوز الشعب العربي في تونس ومصر الفتن التي حاول النظام الاستبدادي في البلدين إثارتها بين أبناء الشعب ، وتحرك الجميع تحت عنوان واحد هو : الحرية ، والتوحد حول متطلباتها لم يعدم امتلاك الوسائل المناسبة لمواجهة آلة القمع ، إذن هناك مطلب عام لامناص من أن يتوحد عليه المجتمع بمكوناته كلها اولاً ، هو تحقيق مناخ الحرية والديمقراطية ، وبعد ذلك ، وليس قبله يمكن السعي لتحقيق المطالب الخاصة لكل مكوّن من مكونات المجتمع ، باختصار شديديشترك المجتمع بمكوناته كلها في تحقيق الهدف العام ، وبتحقيقه فقط ،ينفتح الطريق أمام تحقيق المطالب الخاصة …

البعد الثاني : إن ما تحقق في مصر وتونس ماهو إلا الخطوة الأولى على طريق مازال طويلاً إلى الحرية ، فالإستبداد المديد لم يترك وسيلة من وسائل تدمير المجتمع إلا واستخدمها من أول النهب والفساد والإفساد المادي والإقتصادي إلى التدمير القيمي والأخلاقي والتعليمي والثقافي والفني والاجتماعي والسياسي ، وبالتالي فإن عمليات إزالة الخرائب وكنس الفساد ومعالجة الرضوض النفسية ولاجتماعية وضرورة بناء مؤسسات المجتمع بحيث لايمكن استلاب إرادته مرة أخرى ، يستوجب أكبر قدر من الانتباه واليقظة .

البعد الثالث : لقد حسمت التجربتين الثوريتين في تونس ومصر علاقة الداخل بالخارج ، بحيث يتم التعامل معها بموجب مقياس ثابت بدون تهوين ، أو تهويل وفق الأسس التالية :

1 – إن قوى التغيير والتحرر هي الحامل الوحيد للتغيير تعتمد قواها الذاتية مع الفهم الكامل لقوى التأثير الخارجي بحيث يكون مركز الفعل في الداخل ، والتعامل مع ردود الأفعال التي قد تأتي من الخارج بما تستحق ، وهذا مارسخته ثورة تونس ، ومن ثم ثورة مصر ، لقد كان الخارج يلهث وراء أحداث الثورتين ، ويصّدر مواقف شديدة التناقض بين ساعة وأخرى .

2 – إن هذا يستدعي أكبر قدر من المعرفة والوعي بالخارج وقواه وأدواته ومصالحه وحدود مقدرته على التدخل ، فهو ليس خارج أصم ، وإنما هو خارج متعدد ومتنوع ويضم قوى متصارعة وبالتالي لابد من الفرز وعدم الخلط بين القوى المختلفة .

3 – إن قوى الهيمنة الدولية لاتقدّر للديكتاتوريات الخدمات التي قدمتها ،وإنما تتعامل معها على أساس مدى صلاحيتها لتقديم خدمات مضافة ،ومتى شعرت قوى الهيمنة أن تلك الديكتاتوريات قد انتهت صلاحيتها ،فإنها تنتقل فوراً للبحث عن بدائل لخدمة مصالحها ، أو لتقليل الخسائر على الأقل هذا ماكان واضحاً مع طاغية تونس ، وكذلك مع طاغية مصر ، لقد كان الدعم مطلق في البداية ثم عندما بدأ الإنهيار بدأ البحث عن الإنتقال السلس للسلطة ، وهكذا … مما يرتب على قوى التغيير والتحرر الانتباه الشديد لامتلاك الإرادة والقرار ، فلا يسمح لقوى الهيمنة الخارجية أن تتدخل في القرار الوطني مرة أخرى .

( 3 )

المهم أن المشهد العربي في تونس ومصر هو شهادة ميلاد جديدة للأمة العربية التي تبيّن أنها لم تخرج من التاريخ يوماً ، كانت في محنة ، وقلنا أكثر من مرة ، وفي أحلك الظروف : إنها محنة وستمضي ، ورغم اليقين نعترف أننا كنا قد حزمنا أمتعتنا لنمضي قبل أن تنقضي المحنة ، لكن رياح الثورة من قرطاج إلى الكنانة أعادتنا إلى الحياة مرة أخرى ، فمنذ أشهر ثلاثة ، وأنا بين الحلم والقلق ، تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام من خمسينات القرن الماضي حيث أتفحص عيون الصبايا والشباب العربي تلمع بالانتماء إلى وطن متحرر من الغزاة والطغاة ، المواطنة فيه هي الأساس ، والمساواة والعدالة والحرية هي الأهداف التي ينشدها الجميع ، فلاطائفية ولامذهبية ولاعنصرية ولاإقليمية ولا مناطقية وإنما مواطنة ومواطنين يديرون فيما بينهم إختلافات حضارية بين يسار ويمين وليبراليين واشتراكيين وقوميين ووطنيين وإلى آخرهم …

( 4 )

الآن ، قد يكون الحلم أقرب إلى التحقق بعد انقضاء تجارب بالغة الثراء ، رغم أنها تجارب مرة من حيث المسارات والنتائج ، فالشعب العربي على يد جيل عربي جديد بدأ يقبض على مصيره وقراره بعد أن تحررت إرادته ، وإذا عرف كيف ينتقل إلى بناء مؤسساته الإجتماعية والسياسية والثقافية ويمارس الجدل الإجتماعي فإن الأمة العربية في طريقها لتأخذ مكانها الذي تستحق في هذا العالم ، والجديد الجديد أن الجيل العربي الجديد يمارس الفعل مباشرة ، ويوجّه ، ويقرّر ، وينفذ ،ويستشهد ، لاينتظر إنقلاباً ، ولاقوى خفية ، لاداخلية ، ولا خارجية ، وإنما، بيديه ، وبصدور عارية وبضعةأحجار يلاحق الطغاة والغزاة …

( 5 )

وإذا كان هذا ينطبق على جمع القوى والتيارات والاتجاهات بما يتضمن المراجعة والتجديد والانتقال من أحزب الأفراد والعائلات إلى أحزاب الوطن والبرامج … فإن المشروع القومي العربي التقدمي يولد من جديد مطهراً من سلبيات الماضي والتجارب المرة ، ولعل القوميون العرب التقدميون الجدد يقررون ، الآن ، بالضبط الآن ، أن الأون قد آن لإشهار ميلاد الطليعة العربية في الأجزاء ، وفي الكل العربي ، وفي المهاجر بناء على أسس ومعايير كاملة الأوصاف ، وطوبى لمن ينير الشعلة الأولى …

لقد لحق بالمشروع القومي العربي التقدمي الكثير من التشويه ، والتصقت به تجارب بالغة التشويه والسلبية ، وحدث انفصام حاد بين الشعارات المرفوعة والممارسات المشينة ، وقد أدى هذا كله إلى أن تلك الشعارات القومية العربية فقدت مصداقيتها بعد أن مرّغها الذين حولوّها من أهداف نبيلة إلى مجرد غطاء لممارسات سلطوية متوحشة ، وقد فاقم من الأزمة غياب المؤسسات القومية التي كان يمكن أن تفرز القوى والمواقف ، إضافة إلى ماتعرض له المشروع القومي التقدمي منتهجم القوى المضادة ، داخلية ، وخارجية مما دفع إلى الخلط بين الأهداف النبيلة ، والممارسات المشينة ، الآن على الطليعيين العرب الجدد أن يقطعوا تماماً مع الممارسات السلبية التي نُسبت إلى المشروع القومي العربي التقدمي دون مواربة ، فهي ُتنسب لمن مارسها ، ولاُتنسب إلى المشروع النهضوي العربي التقدمي ، وهذا يقضي وضع البرامج والأسس والمنطلقات والغايات بما يجعل الميلاد الجديد للطليعة العربية معرفاً ، ومعروفاً من المنطلقات إلى الغايات …

إنه الميلاد الثالث للقومية العربية ، الأول كان بمواجهة التتريك مع بداية القرن العشرين ، والثاني كان بموجهة التقسيم وسايكس – بيكو ، ووعد بلفور والاستعمار الأوربي ، والآن الميلاد الثالث بمواجهة الاستبداد والتجزئة والتبعية والفساد …

حبيب عيسى

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire