lundi 28 février 2011

الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها ج 1

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
من أكثر القيم التي تستأثر بالاهتمام اليوم قيمة الحرية، ومن ضمنها الحرية الدينية، فيكاد لا يخلو محفل عالمي أو محلي من حديث عن الحرية في أبعادها المختلفة وخاصة منها البعد الديني، ومن أجلها أقيمت المؤسسات، وأُنشئت المنظمات، وانتظمت المؤتمرات، والمحور دائما هو المطالبةبالحرية، والنضال من أجل الحصول عليها، ومقاومة الاعتداء عليها. والعالم الإسلامي يتوفّر على حجم كبير من هذه المناشط؛ وذلك لأن الحرية فيه تعيش حالة مخاض عسير بين مفاهيم غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف، وانتهاكات واقعية لما هو متفق عليهمن حدودها على أصعدة مختلفة سياسية وفكرية ودينية.
وفي هذا الخضمّ النظري والعملي المتلاطمتتأرجح الحرية الدينية بين من يذهب بها إلى تضييق يكاد يلغي حقيقتها، ومن يذهب بهاإلى توسيع يكاد ينقلب بها إلى الفوضى، وبما أنّ الشريعة الإسلامية قد جاءت مبينةلهذه الحرية من حيث حقيقتها وحدودها وضوابطها، فإن المتكلم في الحرية الدينيةينبغي أن يلتزم فيها بتلك الحدود والضوابط حتى يكون رأيه صادرا عن المفهوم الشرعي،فلا يميل إلى هذا التوسيع أو إلى ذلك التضييق فيحيد عن رأي الدين من حيث يحسب أنهعنه يصدر.
ومما يزيد من تأكّد الضبط للحريةالدينية وفق الرؤية الشرعية ما نراه يتوجّه إليها في هذه الرؤية من شُبه تردأحيانا من الخارج وتأتي أحيانا من الداخل. فالبعض من خارج الدائرة الإسلامية يزعمأن الحرية الدينية في الإسلام هي قيمة مهدرة، إذ الإكراه الديني هو المعنى الذي تتضمنه نصوصه، وهو الذي جرى به التاريخ، وربما مالأه في هذا الرأي بعض من الداخلممن هم متأثرون بنفس الوجهة.والبعض من داخلالدائرة الإسلامية تعدّى بالحرية الدينية ضوابطها فانتهى بها إلى تمييع لا تبقىمعه لهذه الحرية حقيقة ثابتة.
وكل من هذا وذاك يدعو إلى تحقيق علمي في شأنهذه الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، من حيث حقيقتها، ومركزها في الدين، ومنحيث أبعادها وضوابطها، ومن حيث ضماناتها وتطبيقاتها، مقارنة في ذلك بالحريةالدينية في الأديان والمذاهب والقوانين، وردا على الشُبه التي توجّه إليها فيمختلف هذه العناصر.
1 ـ الحريةوالحرية الدينية
ربما اختلفت تعاريف الحرية اختلافا كبيرابحسب الناظر فيها بين مضيق وموسّع في مدلولها، وربما انعكس ذلك الاختلاف أيضا علىالحرية الدينية بذات الأسباب، ولكن قدرا معينا من المعنى في كل منهما قد يكونمشتركا بين المختلفين في التعريف، ويبقى ما بعده محل اختلاف لا يعود على الأصلالمشترك بالنقض، وهو ما يمكن أن يعتمد في التحليل والتأصيل، مع مراعاة مناطقالاختلاف لخصوصيات المعرفين والمحللين.
أ ـ الحرية
تعني الحرية في أقرب معانيها أن يكون الإنسانمتمكّنا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القوليةوالتصرفات السلوكية، سواء على مستوى الفرد في خاصّة نفسه أو على مستوى انتمائهالجماعي. إلا أنّ هذه الحرية فيالاختيار يبقى معناها قائما ما لم تعد على أصلها بالنقض، كأن يكون الاختيار شاملالما فيه إلحاق الضرر بالآخرين من الناس، وهو الحدّ الذي ينتهي إلى هدم الحياةالجماعية، بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية؛ ولذلك فإنه لا يُتصوّر معنى حقيقيللحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها فلا تنقلب إلى فوضى مدمّرة تأتي عليهاهي ذاتها بالإبطال؛ ولذلك قال أبو زهرة عن حقيقة الحرية: إنها" تتكون منحقيقتين: إحداهما السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا الخضوع لحكم الهوى،والثانية، الإحساس الدقيق بحق الناس عليه وإلا كانت الأنانية، والحرية والأنانيةنقيضان لا يجتمعان"1
ويشمل معنى الحرية أول ما يشمل حرية التفكيروهي أن يكون العقل في حركته إلى معرفة المجهول ينطلق في تفكير لا تحكمه إلاّالمقتضيات المنطقية التي تفرضها طبيعة العقل في تركيبه الفطري، ولا يتعامل إلاّ معالمعطيات الموضوعيّة للقضيّة المبحوث فيها كما هي في الواقع، سالما في ذلك من أيّتوجيه من خارجه إلى نتيجة مسبقة يُراد له أن يصل إليها، ومن أيّ قيد لا تقتضيهطبيعته المنطقية أو الطبيعة الواقعية لموضوع بحثه، فحينئذ يوصف التفكير الذي هوحركة العقل بأنّه تفكير حرّ.
ومن عناصر الحرية حرية الأقوال، أو ما يعبّرعنه أحيانا بحرية التعبير، وهو في حقيقته تابع لحرية المعتقد إلا أنه يتضمّن معنىزائدا عليه، إذ هو يحمل بعدا اجتماعيا، فالأقوال أو التعابير إنما هي متجهةبالخطاب إلى الآخرين وليست متّجهة إلى ذات القائل، فمن وجوه الحرية المعتبرة أنيصدع الإنسان بالتعبير عما يراه حقا من الرؤى والأفكار والمعتقدات، ليقنع بهاالآخرين على أنها هي الحق، أو ليكتّلهم عليها في منتظم جماعي، أو ليوجّه سيرالحياة بحسب مقتضياتها، فهذا الوجه من الحرية هو من جهة مكمّل للحرية الفردية فيالمعتقد إذ الأقوال هي ترجمان المعتقدات، وهو من جهة أخرى معدود من الحرياتالجماعية باعتبار توجّه الخطاب للمجتمع.
كما يشمل معنى الحرية أيضا حرية التصرّفالسلوكي، وذلك على معنى أن يكون الإنسان مختارا في خاصّة أعماله، التي تشمل أنواعمآكله وملابسه ومساكنه وأعماله التي يرتزق منها ومحالّ إقامته وأماكن تنقّلهوسياحته وما هو في حكم ذلك من التصرّفات المتعلّقة بخاصّة النفس أو ذات العلاقةبالآخرين من الناس، فالاختيار في هذه التصرّفات يُعتبر من أهمّ عناوين الحرية،والقيود عليها تُعدّ من مظاهر الاستبداد، وكلّ ذلك في نطاق الحدود والضوابط التيألمحنا إليها آنفا، والتي تعصم الحرية من أن تؤول إلى أن تنقض نفسها بنفسها إذاتجاوزت تلك الحدود.
وقد انتهى تحديد الحرية في العصر الحديث إلىتصنيفها إلى نوعين اثنين: الحريات الفردية أو الشخصية، وهي التي تتعلّق بالفرد فيذات نفسه أو التي يكون البعد الجماعي فيها ضعيفا كالحرية في اختيار الأفكار إذابقيت في مستوى القناعة الذاتية، واختيار الملبس والمأكل والمسكن ومحلّ الإقامة وماهو في حكمها. والحريات العامّة، وهي التي تتعلّق بالحياة الجماعية العامّة، مثلحرية التعبير ونشر الأفكار، وحرية التنظّم الحزبي والتوالي الجماعي، وحريةالاختيار لأنظمة الحكم وللقيّمين عليه، ولعلّ الحرية الدينين تجمع بين هذينالنوعين من الحرية.
وقد جاءت التعاليم الإسلامية كما سنبيّنلاحقا تؤسّس لهذين النوعين من الحرية في أصل مبادئها التي أقرّها الوحي قرآناوسنّة، ثم شرحها الفقه الإسلامي في أبوابه الخاصّة بهذا الشأن، كما انتهى الفكرالغربي إلى إقرار هذه الحريات عبر مراحل من التفاعلات الاجتماعية والثقافية تراوحتالحلقات فيها بين الصراع العنيف والوئام السلمي، وتوّجت أخيرا بجملة من المعاهداتوالمواثيق والإعلانات التي تشرحها وتضبط أبعادها وتحدّد ضماناتها، والتي من أشهرهاالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وإذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلاموالفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ الحريات العامّة حظيتهي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية، بل قد يكون قدرها من الاهتمام أوفىمن الاهتمام بالحريات الشخصية؛ وذلك بالنظر إلى آثارها في انتظام المجتمع علىالهيئة التي يكون بها أقدر على النهوض بالأداء الحضاري، وبالنظر إلى أنّ انعدامهايؤدّي بالمجتمع إلى أبواب من الفتن إذا ما فشا فيه الاستبداد الذي هو أحد المفاسدالكبرى التي تعوق المجتمعات عن التحضّر، وتدفع بها إلى الفتنة المذهبة للريح.
وكلّما تطوّرت المجتمعات وتعقّد بناؤهاوتشابك تركيبها كانت إلى الحريات العامّة أحوج، وإليها أشدّ طلبا؛ وذلك لكثرة مايعتاص من مشاكلها فلا يُحلّ إلا بالمشورة الواسعة والمشاركة الأوسع بالرأيوالتنفيذ، ولكثرة ما تتعارض من مصالح وأهواء وأفكار أفرادها، فلا تنتظم في سياقاجتماعي موحّد إلا بإجراء المفاوضات بينهم على أوسع نطاق ممكن لينتهي بينهمبالتراضي على سنن موحّد، والتوافق على صعيد مشترك تتراجع إليه الأهواء المتضادّة،والأفكار المتناقضة، والمصالح المتنافرة، جرّاء المطارحات الحرّة التي تُتاح للجميعفيلتقي الناس بها على سواء.
وفي هذا العصر تطورت المجتمعات الإنسانيةوتعقّدت بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، فقد أصبح الفرد في المجتمعيحتاج في كلّ شؤونه إلى جميع الآخرين من الأفراد، وأصبح إنجاز أيّ شأن من شؤونالحياة لا يمكن أن يتمّ إلا باشتراك بين العدد الكبير من أفراده؛ ولذلك فإنّالحريات العامّة أصبحت في العصر الحديث المطلب الأعلى من مطالب الحرية، وربما كانعلى رأسها الحريات السياسية التي من أجلها قامت الثورات الكبرى كالثورة الفرنسيةوغيرها، وما زلنا نشهد إلى اليوم كيف أنّ التاريخ يكاد يتمحّض في حركته بالتدافعمن أجل الحريات السياسية بفروعها المختلفة، وهو الأمر الذي لا تخطئه العين فيالعدد الأكبر من الأقطار على تفاوت بينها في المقدار الذي أُنجز من إرساء هذهالحرّيات وثبات جذورها في الثقافة الاجتماعية وفي الإجراءات العملية التي ينتظمبها المجتمع.
ب ـ الحرية الدينية
المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملةمن الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلومنها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلىسائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّالمعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلكإلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.
والمقصود بالاعتقاد هو الإيمان بجملة منالمفاهيم والأفكار على أنّها حقّ أو هي الحقّ، وبخاصّة منها تلك التي تفسّر الوجودوالكون والحياة، ويتشعّب منها كلّ ما يتعلّق بشؤون الإنسان الفردية والجماعية. وقدينطبق هذا المعنى بدلالة أعمق على ما يتعلّق من هذه المفاهيم والأفكار بما هومصبوغ بصبغة دينية غيبية، إذ الإيمان بها يكون في الغالب أحكم في النفوس وأقوىتأثيرا عليها، وقد يلحق به ما هو مصبوغ بصبغة فلسفية، إذ هو يكون أيضا على قدر مناليقينية والرسوخ.
وحرّية الاعتقاد تعني حرّية الاختيار في أنيتبنّى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير أو ما يصل إليه بأيّوسيلة أخرى من وسائل البلاغ، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنّها هي الحقّ،ويكيّف حياتها النظرية والسلوكية وفقها، دون أن يتعرّض بسبب ذلك للاضطهاد أوالتمييز أو التحقير، ودون أن يُكره بأيّ طريقة من طرق الإكراه على ترك معتقداته،أو تبنّي معتقدات أخرى مخالفة لها.
ومعلوم أنّ الإيمان بالأفكار ومنها المعتقداتهو من حيث ذاته لا يمكن أن يرد عليه قيد، فالحرية فيه حاصلة على وجه البداهة، إلاأنّ الطريق التي يحصل منها الإيمان بالأفكار هي التي يمكن أن يطالها القهر بالحجرعلى بعض المسالك والتوجيه إلى أخرى بطرق مختلفة من الحجر والتوجيه بعضها مباشروبعضها غير مباشر، مثل ما كان يفعل فرعون بأتباعه حينما كان يقول لهم } مَا أُرِيكُمْإلاْ مَا أَرَى { ( غافر/29)،فتكون حرية المعتقد إذن مبتدئة من أن يُخلّى بين عقل الإنسان وبين المعطياتالموضوعية للموضوع المفكَّر فيه في غير إلجاء إلى بعضها دون بعض بأيّ وجه من وجوهالإلجاء.
وبما أنّ الاعتقاد لا تتمّ حقيقته بالنسبةللمعتقِد إلاّ إذا توافق فيه باطن التصديق القلبي بحقّية المعتقَد مع ظاهر التكييفللحياة الفكرية والسلوكية وفقَه، فإنّ حرّية الاعتقاد لا يكون لها معنى إلاّ إذااجتمعت فيها جملة من العناصر التي تضمن الجمع بين ذلك الباطن من المعتقد وبينالظاهر منه، وإلاّ فإنّ هذه الحرّية إذا ما اقتصرت مثلا على مجرّد التصديق القلبيبالمعتقدات فإنّها قد لا يكون لها معنى، إذ مجرّد التصديق أمر خفيّ لا يرد عليهبحال أيّ ضرب من ضروب المنع أو الاضطهاد، وإذن فإنّ الحديث عن الحرّية في شأنهيصبح أمرا غير ذي موضوع، وذلك باعتبار أنّها من الحاصل الذي لا يمكن منعه.
وبالإضافة إلى العنصر الأساسي في حرّيةالاعتقاد المتمثّل في التصديق بالمعتقَد على أنّه حقّ أو هو الحقّ، فإنّ العنصرالثاني من عناصرها هو الإعلان عن ذلك المعتقد، والتعبير عنه للآخرين، إخراجا له مندائرة الذات إلى دائرة المجتمع على سبيل إشاعته فيه: بيانا لحقيقته، وشرحا لمفهومه، واستدلالا عليه، ومنافحةعنه، فذلك هو المتمم لمعنى حرية المعتقد بمفهوم حرية التصديق القلبي، إذ هذاالتصديق كما أشرنا إليه آنفا لا يرد عليه معنى الحرية من حيث ذاته، وإنما يرد عليهمن حيث إظهاره بالتعابير والأقوال.
ومن عناصرها أيضا حرّية الممارسة السلوكيةللمقتضيات الاعتقادية من قيام بالشعائر التعبّدية، وإقامة للاحتفال بالمناسباتوالأعياد الدينية، وتكييف للحياة الفردية والأسرية والاجتماعية بما تتطلّبه المعتقداتالنظرية، وما إلى ذلك من مظاهر التطبيق السلوكي، فهذا المعنى هو من المتمماتالأساسية لمعنى حرية المعتقد تصديقا وتعبيرا، إذ السلوك هو ترجمان التصديق، فإذاما وقع صدّه فإن المعتقد يبقى حبيس الذهن واللسان فلا يكون له نفاذ في الواقع ولاتكييف للحياة، وذلك انتقاص لحقيقة الدين يؤول به إلى ضرب من الفلسفة العقليةالمجردة، ويجرده من لوازمه المتمثلة في العبادة، ولا يكون دين بدون عبادة.
ومن أهمّ عناصر حرّية المعتقد الحرّية فيالدعوة إليه، والسعي في نشره بين الناس ليصبح معتقدا لهم، مع ما يقتضيه ذلك منحرّية إعلامية بوسائلها المختلفة في البلاغ والنشر، ومن حرّية في تجمّع الناسوتجميعهم من أجل تبليغ المعتقد إليهم وشرحه لهم، وحرّية تجميع الأنصار للتداول فيشأن معتقدهم المشترك، وتدبير أمر سيرورته وانتشاره، وحرّية التنظّم في هيئاتومؤسّسات وجمعيات وأحزاب من أجل التناصر على ما ييسّر السيرورة والانتشار. إنّ هذه العناصر إذاما اجتمعت اكتملت بها الحرّية الدينية، وأيّما خلل في واحد منها يفضي إلى نقصانفيها حتى ينتهي أمرها إلى الزوال.
2 ـ مرجعيةالحرية الدينية بين الإسلام والغرب
إن الحديث عن الحرية الدينية في الشريعةالإسلامية لا يمكن أن يكون بمعزل عن الحرية الدينيية كما تطرح اليوم في الثقافةالغربية؛ ذلك لأن هذه الحرية الدينية ضمن قيمة الحرية بصفة عامة تأخذ حيزا كبيرافي هذه الثقافة، بل لعلها تُعتبر أعلى القيم التي تأسست عليها الحضارة الغربية،ويقوم الادعاء واسعا بأنّ الحرية الدينية في هذه الحضارة لا تضاهيها في الثقافاتوالحضارات الأخرى أية حرية دينية، وكثيرا ما يتم ذلك من خلال المقارنة مع وضع هذهالحرية في الإسلام، ليقع الانتهاء من ذلك إلى الحكم بتفوق ما هو موجود في الغرب فيهذا الشأن عما جاء الإسلام به، وقد يقع الانتهاء إلى نفي أية حرية دينية فيه.
وإذ لا يتسع المجال للمقارنة التفصيلية فيهذا الأمر فإنه يمكن الاكتفاء بالمقارنة بين مرجعية الحرية في الإسلام ومرجعيتهافي الغرب ليتبين بذلك نتائج مهمة فيما يتعلق بمدى قوّة الحرية الدينية وثباتهاومصداقيتها في كل منهما، وهو الأمر الذي يترتّب عليه سيرورة تلك الحرية في الواقعوالمصير التاريخي الذي تنتهي إليه في كل من الحقلين الحضاريين.
أ ـ مرجعية الحرية الدينية في الإسلام
الإسلام دين جاء يعرض نفسه على أنه هو الدينالخاتم، فهو قائم على وحي ليس بعده من وحي آخر؛ ولذلك فإنّ ما فيه من تعاليم فيمختلف مجالات الحياة جاءت معروضة على سبيل الثبات والديمومة، فليس لها من ناقضينقضها لا من وحي لأنّ الوحي قد انقطع، ولا من عقل لأنّ الوحي أعلى من العقل، وليسللأدنى أن ينقض الأعلى، وأما الاجتهاد العقلي فإنه يتمّ من خلال منظومة الوحي،وبحسب ما تسمح به وتحدّده هذه المنظومة من تفسير لما هو ظنّي، أو استكشاف لما هوغير منصوص عليه وفق المبادئ والقواعد الكلّية العامّة، وليس بحال من الأحوال ناقضالتقريرات الوحي كما يزعم بعض الزاعمين.
وتبعا لذلك فإنّ ما جاء متعلّقا بالحريةعامّة والحرية الدينية خاصّة من التعاليم يندرج هو أيضا ضمن هذا السياق من الثباتوالديمومة، فليس لأحد أن يغيّر فيه شيئا، لا من حيث ذاته في أحكامه المندرجة ضمندرجات الحكم الشرعي المعلومة، ولا من حيث منزلته القيمية المرتبطة بمنزلة الوحيبصفة عامّة، ومنزلة الأصول الكلّية المؤسّسة فيه بصفة خاصّة، ولا من حيث الديمومةالزمنية التي تمتدّ في كلّ الأحوال والظروف على امتداد الوجود الإنساني دون أنيتطرّق إليها الاستثناء أو التعطيل أو الإلغاء، ولا من حيث تعلّقها بالإنسانبمقتضى إنسانيته مطلقا عن عوارض الإنسانية من جنس ولون ودين وغيرها، فالحرية كماجاء بها الإسلام هي من جميع هذه النواحي قيمة كبرى تحتلّ من سلّم المقاصد الدينيةالدرجات العليا، وهي قيمة ثابتة تتّصف بالديمومة في الزمان والمكان.
ويبدو هذا الأمر أول ما يبدو في التشريعلحرية الاعتقاد، وتحريم الإكراه في الدين، فلئن جاء الإسلام يدعو الناس إلىالإيمان، ويرشدهم إلى طريق الهداية، ويبيّن لهم المنهج المؤدّي إلى ذلك، إلا أنّهجاء أيضا يشرّع للحرية في الاستجابة لهذه الدعوة أو الإعراض عنها مع تحمّلالمسؤولية في كلّ من الخيارين، بل إنّ الاستجابة لدعوة الإيمان لا تكون في الميزانالإسلامي استجابة معتدّا بها إلا إذا كانت حاصلة بالنظر العقلي الحرّ، أما إذا كانالإيمان بالدين ناشئا عن إلجاء وراثي تقليدي على سبيل المثال فإنّه يُعتبر عندأكثر العلماء إيمانا ناقصا، وقد لا يُعتبر إيمانا أصلا عند البعض منهم، وما ذلكإلاّ لما للحرية من قيمة في تحصيل الاعتقاد، وهو ما جاءت فيه نصوص كثيرة، منهاقوله تعالى: } وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنشَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {( الكهف/29)، وقوله تعالى: } لاَ إِكْرَاهَفِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ{ ( البقرة/256)، وقوله تعالى: } وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَتُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ { ( يونس/99)،فهذه الآيات وغيرها كثير تؤسّس بصفة قطعية لحرية المعتقد، سواء كان معتقدا دينياأو فلسفيا أو فكريا عامّا.
ويلحق بحرية المعتقد بأنواعه حرية التعبيرعنه بالأقوال، وحرية ممارسته أشكالا عملية في الواقع عبادة أو تصرّفات شخصية فيخاصّة النفس، أو توافقات جماعية في أنماط الحياة ، فقد جاء الإسلام يشرّع لهذهالحرية، ويجعلها حقا من حقوق الإنسان، ويؤثّم إهدارها والحيلولة دونها، بلوالتقاعس دون ممارستها باعتبار أنّ أغلبها يندرج ضمن دائرة كونها حقا وواجبا فينفس الآن، وهو ما يقتضي أن تكون الممارسة لهذه الحقوق واجبا عباديا مشمولا بالجزاءثوابا وعقابا، وهو وضع للحرية لم يرتق إليه أيّ دين أو مذهب غير الإسلام.
إن المرجعية المؤسسة للحرية الدينية فيالإسلام، والموجهة لمساراتها، والضامنة لصيرورتها هي إذن مرجعية تضرب بجذورها فيتعاليم الدين نفسه، فالدين هو المؤسس للحرية الدينية، تكليفا إيمانيا، وتفصيلاتشريعيا، فيكون الإخلال بها إخلالا بالدين في مقتضياته الإيمانية والتشريعية، وهيبذلك كله تكتسب وضعا من القوّة الذاتية تكون به ثابتة على مرّ الزمن، لا ينالهاتبديل ولا تغيير ولا انتقاص، إذ الدين لا يناله شيء من ذلك، كما أنها تكتسب بهقوّة نفسية في تحمّلها، إيمانا وسلوكا، إذ يعتبر ذلك التحمّل طاعة لله تعالى تقرّبمنه، والإخلال بها عصيانا يبعّد منه.
ب ـ مرجعية الحرية في الفكر الغربي
من أهمّ المقولات التي قام عليها الفكرالغربي الحديث، والتي شكّلت الوعي الحضاري المعاصر مقولة الحرية، سواء في بعدهاالفردي حرياتٍ شخصية، أو في بعدها الجماعي حرياتٍ عامة، والشعارات الكبرى للمذاهبالفلسفية، وللثورات الإصلاحية، وللانتفاضات الشعبية، وللتنظيمات الدولية،وللبرلمانات السياسية تكاد لا تخلو منذ أكثر من قرنين من الحرية عنصرا أساسيا منعناصرها، حتى غدت هذه الكلمة تكاد تكون المقوّم الأكبر من المقوّمات التي يُراد أنتُشكّل عليها الحياة الفردية والجماعية، ومن أهمّ عناصر هذه الحرية المحرّكة للوعيالحضاري الحرية الدينية.
وبما أنّ الفكر الغربي في عمومه قد نشأوتطوّر خارج سياق الدين إن لم يكن نقيضا له، وبما أنّ الدين المسيحي الذي هوالمحضن الجغرافي الذي نشأت فيه الفلسفة الغربية كانت صبغته العامّة صبغة روحيةتنأى به عن أن يكون موجّها للحياة العامّة، فإنّ مقولة الحرية في مبدئهاوتطوّراتها في ثقافة الغرب كانت مقولة وضعية لا صلة لها بالدين، وإنما هي من محضالتقرير العقلي، ومصدر الإلزام فيها لا علاقة له بالمقدّس الديني، وإنما هو مصدرفلسفي اجتماعي وربما كان أخلاقيا أحيانا.
إلاّ أنّ الفكر الغربي بصفة عامّة لئن كان فيتشكّله الفلسفي بما في ذلك ما يتعلّق بالحرية هو وليد العصر الحديث الذي عُرف فيالثقافة الغربية بعصر التنوير، ومن هذا العصر وأحداثه تشكّلت أسسه الكبرى، فهو غيرمقطوع الصلة بالفكر الفلسفي القديم متمثّلا بالأخصّ في الميراث اليونانيوالروماني، بل هو ممتدّ في بعض جذوره إلى ذلك الميراث؛ ولهذا فإن الدارسين لهذاالفكر لا يغفلون في الغالب عن تتبّع هذه الجذور في سبيل فهمه الفهم الأقوم، ولايبعد أن يكون للحرية كما انتهت إليه نظريتها وإجراءاتها فيه عرق يضرب على نحو أوآخر في ذلك الميراث القديم، وهو الأمر الذي لا ينبغي إهماله عند تقويم الحرية فيهذا الفكر، فلعلّ بعض الملامح فيها تعود في مرجعيتها إليه.
لقد كان الفكر اليوناني مثقلا بالعبوديةلآلهة متعددة من الطبيعة، وهو الأمر الذي كان له أثر في رسوخ فكرة العبودية الاجتماعيةالمتمثّلة في التشريع للرقّ على سبيل استحسانه ضرورة من ضرورات الحياة الجماعية،فالاسترقاق الذي هو النقيض الأكبر للحرية كان جزءا ثابتا من عناصر الفلسفةالسياسية الاجتماعية في الفكر اليوناني، بل قد كان محلّ استدلال على حتميته وصلاحهمن قِبل كبار الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، فقد اعتبر كلّ منهما الرقّ نظاماطبيعيا في حياة المجتمع، إذ في مشاهد الطبيعة كلّها تقابل بين الأعلى والأدنى،وأنّ الأدنى مسخّر لخدمة الأعلى، وهو ما ينبغي أن يصبح ساريا على الإنسان فيتنظيمه الاجتماعي، فتكون طبقةٌ للعبيد تخدم طبقة الأحرار، وهما طبقتان محدّدتانعلى سبيل الطبع الذي لا يتغيّر2، فقد كان إذن الخلل في التحرر الديني سببا في خلل على مستوىالتحرر الاجتماعي، وكان لهذا الميراث تسرّب على نحو أو آخر إلى الفكر الغربيالحديث.
لقد كانت المجتمعات الأوروبية طيلة العصورالوسطى تعاني من استبداد فظيع مسلّط على رقاب الناس من قِبل جهتين تتواليان علىقهر الشعوب وسلب حريتها، الكنيسة تسلب الحرية الدينية، والحكّام يسلبون الحرياتالعامّة السياسية والاجتماعية، وكان تزايد الضغط الاستبدادي من قِبل هاتين الجهتينعلى الشعوب الأوروبية التي بدأت تتنسّم طلائع الأنوار القادمة إليها من الحضارةالإسلامية، كان ذلك مستفزّا لها كي تنهض مطالبة بحريتها، فكان عليها أن تواجه هذينالمصدرين من مصادر الاستبداد بثورات متتالية وصراعات متعاقبة كي تنال حريتها، وكانالصراع عنيفا داميا في كثير من مراحله، وهو ما لخّصته العبارة الشهيرة التي كانالناس يتناقلونها في خضمّ المواجهة، وهي تنادي الناس بأن « اشنقوا آخر حاكم بأمعاءآخر قسيس».
وقد دامت هذه الهبّة الشعبية من أجل الحريةالدينية والسياسية زمنا ليس بالقصير لعلّها بامتدادها منذ ظهور إرهاصاتها إلى حصولنتائجها بلغت بضعة قرون، وقد احتضنتها من مبتدئها إلى منتهاها حركة فكرية تنظّرلها، وتوجّه مسارها، وتلخّص نتائجها تلخيصا فلسفيا، يقودها ويرعاها كبار مفكّريالتنوير من الفلاسفة والأدباء، حتى انتهت إلى تشكيل الفكر الغربي الحديث، الذيتنزّلت الحرية الدينية فيه من خلال مقولة العلمانية التي تعني التحرر من الدين أنيكون له سلطان على الشأن الاجتماعي العام، وترك الحرية فيه للأفراد أن يكون شأناشخصيا في الممارسة الروحية إيمانا قلبيا وشعائر تعبدية.
لقد كانت الكنيسة تستبدّ على عقول الناسفتوجّهها في التفكير الوجهة التي تريد، وتمنعها من التفكير الحرّ لاكتشاف حقائقالكون الوجودية والطبيعية، ومارست في ذلك قهرا عظيما وصل إلى الإحراق بالنار لمنيتوصّل بفكره الحرّ إلى اكتشاف حقيقة من حقائق الطبيعة كحقيقة كروية الأرضودورانها باعتبار أنّ ذلك يخالف التوجيهات الدينية، كما كانت تمارس ظلما اجتماعيابالتسلّط القهري على حياة الناس في تدبير شؤونهم الخاصّة والعامّة، وظلما اقتصاديابابتزاز الأموال وفرض الضرائب والإتاوات على الرقاب.
إنّ هذا الوضع الاستبدادي أدّى إلى نشوء ثورةتحرّرية ظهرت أوّل ما ظهرت في نزعة إصلاحية انبثقت من الكنيسة نفسها، وهيالمتمثّلة في الثورة البروتستانتية التي حملت إصلاحات من داخل النظام الكنسي نفسهفي اتّجاه التحرّر من القمع الفكري والاجتماعي الذي كانت تمارسه الكنيسة باسمالدين، وقد جوبهت هذه الثورة بمقاومة ضارية من قِبل حُرّاس الكنيسة المحافظينالمتمسّكين بالاستبداد الفكري والاقتصادي والاجتماعي، وانتهى الأمر إلى صراع دامتمثّل في حروب طويلة بين المذهبين الكنسيين اللذين أصبحا دينين مختلفين، وقدامتدّت تلك الحروب التي أصبحت تعرف بالحروب الدينية على الرقعة الأوروبية بأكملهاتقريبا، كما امتدّت على رقعة زمنية كادت تستغرق القرنين السادس عشر والسابع عشر.
لقد كانت لهذه الحروب الدينية آثار مدمّرةعلى المجتمع الأوروبي، بما أفضت إليه من انشقاقات اجتماعية عمّت بها الاضطراباتوالفوضى، وهو الأمر الذي أفضى إلى نشأة نزوع عند الناس وعلى رأسهم المفكرونوالفلاسفة إلى إنهاء هذا الصراع بإخراج كلّ من الطرفين المتصارعين وهما الحاملانللراية الدينية من ساحة الحياة الاجتماعية التي هي محلّ الصراع وموضوعه، وإيكالالتدبير في شؤون الحياة العامّة إلى العقل لا إلى الدين بتأويليه المتصارعين، وبعدمخاض طويل انتهى الأمر إلى التوافق على هذا الأمر، فأُخرج الدين من أن يكون موجّهاللعقل فانطلق في التفكير الحرّ، ومن أن يكون مدبّرا لشؤون الحياة الاجتماعيةوأُوكل ذلك للتدبير العقلي المستقلّ عن الدين، وكانت تلك هي العلمانية بما تحملهمن تحرّر فكري واجتماعي ناشئة من محضن صراعات دامية على أساس توافقي، وليستمتولّدة من تفكير أيديولوجي أو نزوع أخلاقي على سبيل التأسيس الابتدائي3.
لقد كانت الحرية الدينية إذن في الفكر الغربينتيجة لأحداث تاريخية معينة، وحلاّ لمشكلات تلك الأحداث، وذلك حينما توازنت قوىمتصارعة، ولم يكن لأيّ منها قدرة على الحسم لصالحها، فرُئي أنّ هذه الحرية هيالحلّ لصالح الجميع، وهكذا كان منشأ الحرية منشأ ظرفيا، ومرجعيتها مرجعية ظرفية لاعلاقة لها بالمبدئية المثالية العلوية الدائمة، وهو ما سيفضي حتما إلى الوضع الذياستقرّت به الحرية في أذهان الأوروبيين، وهو الوضع الذي تتصف فيه الحرية بالظرفيةلا بالدوام، وبالوضعية لا بالعلوية الإيمانية ولا حتى الخلقية، واقترنت فيهبالمصلحة لا بالخيرية الذاتية.
إنها إذن مرجعية للحرية طبيعتها الظرفيةوالتغير مع تغيّر طبيعة الواقع وأحداثه؛ ولذلك فإنّ الحرية ذاتها تكون قابلة لأنتداخلها ازدواجية المعايير، ونسبية التنفيذ، فإذا كانت مطلوبة اليوم لظروف معينةوتوازنات قائمة، فإنها يمكن أن تصبح غدا منتهكة بوجه شرعي إذا ما تغيّرت تلكالظروف، واختلّت تلك التوازنات، فإذا الاستبداد هو المشروع والحرية هي المنكرة،وإذا لم يصل الفكر الغربي إلى هذا الوضع إلى حدّ الآن، فإنّ طبيعة المرجعية التيقامت عليها الحرية فيه تحمل القابلية لأن يصل إليه غدا، وثمّة من المؤشّراتالفعلية اليوم ما ينبئ باتجاه هذا الفكر في خصوص الحرية هذه الوجهة.
وعند المقارنة يتبيّن الفرق بين مرجعيةالحرية الدينية في الإسلام، وهي المتأسّسة على الإلزام الديني الذي يقتضي الطاعةتقربا إلى الله تعالى، فيضفي عليها الثبات والديمومة، والدافعية إلى التنزيلالسلوكي، والتوجه الإصلاحي عند وقوع الخلل، وبين مرجعيتها في الفكر الغربي، إذ هيمتأسسة على موازين قوى ظرفية، فإذا ما اختلت تلك الموازين ربما انقلبت الحريةالدينية على أعقابها ليس في السلوك فحسب وإنما في المبدأ أيضا، وذلك الاختلافالجوهري بين المرجعيتين هو الذي يمكن أن نفسر به كيف أن أهل الأديان والمعتقداتحافظوا على وجودهم في البلاد الإسلامية من يوم ظهر الإسلام إلى يوم الناس هذا،وكيف أن ملايين المسلمين في الأندلس لم يبق منهم شيء لما اجتاحها المد المسيحي،وخير فيه المسلم بين تنصّر أو قتل أو هجرة، ولا يبعد أن يُعاد هذا الأنموذج في أيلحظة من الزمن في نطاق الفكر الغربي كما دلّ عليه إرهاص ما وقع في البوسنة منذ بعضالسنوات.
3 ـ التشريعالإسلامي للحرية الدينية
جاءت الشريعة الإسلامية تولي الحرية الدينيةأهمية بالغة في البيان التشريعي، فأسّست لها أحكاما في غاية القطعية التي لا تحتملتأويلا، لا من حيث قطعية ما ورد فيها من نصوص ولا من حيث قطعية الدلالة، حتى أصبحتالأحكام المتعلقة بهذه الحرية في غاية الوضوح، سواء ما تعلق منها بالحرية في حصولالإيمان الديني كما هو مطلوب في الإسلام، أو ما تعلق بفهم الدين وتأويله، أو ماتعلق باختيار دين آخر غير الإسلام واعتناق معتقداته وممارسة شعائره، ففي كل ذلكجاء تشريع الحرية فيه على درجة عالية من البيان.
أ ـ الحرية في الإيمان بالإسلام
جاء الإسلام يطلب من الناس الإيمان به، وجعلالإيمان بالمعتقات الغيبية على رأس هذا الطلب، إلا أن هذا الإيمان حُدّدت له طريقةفي التحصيل تقوم على الحرية، وجُعلت تلك الطريقة المبنية على الحرية مقياساللإيمان تقاس به درجة قوته وضعفه، بل جعلها بعض الباحثين مقياسا يقاس به الإيمانفي القبول والردّ، وذلك بناء على ما تتوفّر فيه من أقدار الحرية في التحصيل.
وهذه الطريقة المشرّعة في تحصيل الاعتقاد هيالنظر الاستدلالي الصادر عن فكر حرّ من كلّ القيود والمكبّلات الظاهرة والخفيّة،وذلك ما يحمله التوجيه القرآني المستمرّ في دعوته إلى الإيمان بالعقيدة إلىالتأمّل والتدبّر والتفكّر في دواخل الأنفس وفي آفاق الكون للوقوف فيها علىالأدلّة والشواهد المثبتة لتلك العقيدة، ومن ذلك قوله تعالى: }قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِيالسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّيُؤْمِنُونَ {( يونس/101)، وقوله فيتقريع من تنكّب هذا المسلك الاستدلالي : } أَمْتَحْسَــــبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّاكَالْأَنْعَــــامِ بَلْ هُمْ أَضَــــلُّ سَبِيلاَ {(الفرقان/44).
وبذلك أصبح الإيمان المعتبر في الشرع هوالإيمان الحاصل بالنظر الاستدلالي المتحرر من القيود الموجهة إلى الإيمان على غيراختيار واع، وأما الإيمان الحاصل بغير ذلك النظر المتحرر كأن يكون حاصلا بوراثة،أو بمحاكاة غافلة، أو بوجدان إشراقي فإنه يكون في أقلّ الدرجات وإن كان إيمانامقبولا عند أكثر أهل الرّأي من علماء العقيدة، وغير مقبول أصلا عند القليل منهمحتى يتدعّم لاحقا بحصول ثان بطريق النظر المتحرّر4.
ب ـ الحرية في الإيمان بغير الإسلام
لئن كان الإسلام يدعو إلى الإيمان به إلا أنّذلك الطلب هو طلب على سبيل التخيير لا على سبيل الإلجاء بأي وجه من وجوه الإلجاء،فإذا ما اختار أي إنسان دينا غير الإسلام فإن الحرية مكفولة له في ذلك، سواء منحيث المعتقد أو من حيث ممارسة الشعائر التي يتطلبها ذلك المعتقد، وليس لأيّ إنسانمهما يكن له من سلطان فردي أو جماعي مادّي أو معنوي أن يحمل إنسانا آخر على اعتناقمعتقد مّا بطريق الإكراه، لا بالتحمّل التصديقي، ولا بالاعتراف القولي، ولابالممارسة العملية، فيبقى كلّ إنسان إذن حرّا في أن يعتنق من الدين ما يقتنع بهويرتضيه عن اختيار.
وقد جاءت نصوص القرآن الكريم في هذا المعنىقطعية في الدلالة بحيث لا يمكن أن يداخلها تأويل بأي وجه من وجوه التأويل، ممايدلّ على أن التشريع لحرية التدين جاء في الإسلام على وجه الحسم الذي لا مدخل فيهلنقض، وهو ما يبدو في قوله تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ {( البقرة/256)، وفي قوله تعالى : } فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءفَلْيَكْفُرْ {( الكهف/29)، وفي قولهتعالى: } وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْجَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ {( يونس/99) إنّها آيات صريحة فيحرية الاعتقاد وما يقتضيه من تعبّد، وفي عصمة الناس من الإكراه العقدي، حتّى أصبحتهذه الحرية أصلا من الأصول التشريعية فيما يتعلق بالحرية الدينية5.
ومما يلحق بهذا الأصل المشرع للحرية الدينيةأنّ التشريع الإسلامي لا يكتفي في هذا الشأن بمنع الإكراه في الدين من قِبلالمسلمين تجاه غيرهم، بل شرّع أيضا لمنع أيّ كان من غير المسلمين أن يكره غيرهبأيّ وجه من وجوه الإكراه على أيّ معتقد من المعتقدات، ودعا إلى أن تكون حرّيةالمعتقد شأنا إنسانيا عامّا، وقد بلغ الأمر في هذا التشريع إلى حدّ محاربةالمكرِهين غيرَهم على معتقَد مّا من المعتقدات ليخلّوا سبيلهم أحرارا في اختيار مايشاؤون من دين ينتهون إليه بالنظر الحرّ، ولم تكن الحروب التي خاضها المسلمون منأجل تبليغ الدعوة إلاّ مندرجة تحت هذه الحال، إذ مقصدها الأعلى كان رفع ما أُكرهتعليه الشعوب من دين إكراها مادّيا أو معنويّا من قِبل حكّامها المستبدّين وكهّانهاالمتسلّطين، وجعلهم أحرارا يختارون ما يشاؤون من ديانات تُبسط لهم على سواء من أجلأن يختاروا منها ما يريدون، وهو خلاف ما يُدّعى من أنّ تلك الحروب إنما كانتلإكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام، وشاهده الباقي على مرّ الزمن ما اشتملتعليه المجتمعات المسلمة في كل مكان وزمان من فئات دينية تعيش بين المسلمين حرة فيدينها.
ج ـ حرية الفهم الديني
لم يكن الإسلام في تشريعه للحرية الدينيةمقتصرا على حرية المعتقد أن يكون صادرا عن نظر حرّ وعن اختيار حرّ، بل تعدى ذلكليكون مشرّعا للحرية في فهم الدين بعد الإيمان به، فأحكام الدين مضمّنة في نصوصالقرآن والسنة، ومسؤولية المسلم في التدين مسؤولية فردية تقوم على فهمه لتلكالأحكام من نصوصها فهما حرا لا سلطان فيه لوصي من الناس له الحقّ في أن يفهمالأحكام حكرا من دون الناس، ليكونوا هم تابعين له في ذلك الفهم، وذلك خلافا لأديانأخرى تستبدّ فيها طبقة كهنوتية بالتأويل الديني ليكون تأويلا للأتباع، أما الإسلامفلا كهنوت فيه، وإنما المسلمون متساوون فيه في حرية الفهم، ولا يشترط عليهم إلاشروط منهجية تؤهّل للفهم، فإذا ما حصلت تلك الشروط أصبح كل مسلم مهيّأ لأن يكونعالما في الدين، حرا في أن يفهم كما يرى الفهم، وفي أن ينشر فهمه على الناس.
ومن هذه الحرية في الفهم نشأت المذاهبالإسلامية المتعددة في العقيدة وفي الشريعة، فتلك المذاهب اتفقت في الأصول، ولكنهااختلفت في الفروع، نتيجة لما أباحه الإسلام من حرية أدّت بمؤسّسيها وعلمائها إلىأن يجتهدوا في استخراج الأحكام من مداركها، كل بحسب منهجه وظروفه الزمانيةوالمكانية، لينتهي إلى رأي تنامى ليصبح بمرور الأيام مذهبا قائما يختلف عن مذهبغيره فيما هو من مجال الاجتهاد، فليست المذهبية إذن إلا ثمرة من ثمرات الحريةالدينية كما جاءت في الشريعة الإسلامية.
وفي هذا الصدد نريد أن نناقش أطروحة ظهرت منذبعض الزمن ينادي بها بعض المنتمين إلى العلوم الشرعية، وهي ذات علاقة بالحريةالدينية فيما يتعلق بفهم الدين والاستنباط منه، ونشر الأفهام والاستنباطات بينالناس، وتلك الأطروحة هي التي تدعو إلى أنه ينبغي أن يكون إبداء الرّأي في الدينحكرا على مجموعة من المختصّين مثل إبداء الرّأي في الطبّ أو في الهندسة أو في أيّاختصاص علميّ آخر؛ فهذه الأطروحة تخالف ما انتهينا إليه آنفا من أنّ فهم الدين منحيث المبدأ هو مسؤولية مشاعة بين المسلمين تنضوي تحت مسؤولية التكليف بالدين عموما،فلكلّ مسلم بل على كلّ مسلم الحقّ في أن يقوم بها باجتهاده إن توفّر على إمكانذلك، أو بالاستعانة بغيره إن لم يتوفّر عليه، ثمّ إنّ التعبير عن ذلك الفهم هوأيضا من حيث المبدأ حقّ مشاع لا يُستثنى منه مسلم، إلاّ إذا أدّى الأمر إلى فتنةأو كان عملا عبثيا، فتُقيّد الحرّية إذن اعتبارا لتلك العوارض لا لأصل المشروعية.
وما يُقال من أمر الاختصاص على أيّ وجه حُملمعناه ليس بميزان صحيح يضمن الرّشد في الفهم ويعصم من الخطإ فيه، والشاهد على ذلكأنّ كثيرا ممّن يُعتبرون من المختصّين باعتبار التخرّج من الدراسات الشرعية، أو باعتبارالتصدّي للمناصب الدينيّة من إمامة وغيرها نراهم اليوم يمارسون حرّية التفكيرالديني، فيتوصّلون إلى تصوّرات في مسائل دينيّة يحملونها قناعة، وينشرونها بينالناس دعوة، والحال أنّها تصوّرات كثيرا ما يجانبها الصواب لسقوطها في الجزئيّة،وتغافلها عن المقاصد الشرعية، وهي تحدث بذلك أحيانا فتنة بين الناس، وتكون لهاآثار مرهقة للإسلام والمسلمين.
وفي مقابل ذلك فإنّ ثلّة من المصلحينالدينيّين والمفكّرين الإسلاميين ليس لهم صفة التخصّص المجيز لحرّية الرّأي الدينيبحسب رأي أصحاب هذه الأطروحة لا على معنى التخرّج العلمي ولا على معنى المناصبالمهنية، ولكنّهم لمّا مارسوا حرّيتهم في التفكير والتعبير أبدعوا في إصابةالحقيقة من حيث الفهم، كما أبدعوا في تبليغها إلى الناس، وفي إحداث إصلاحات فرديةواجتماعية مشهودة بها، ومن أولئك على سبيل المثال محمد إقبال وحسن البنّا ومالك بننبي، فهؤلاء وكثير غيرهم لم يكونوا من المختصّين في العلوم الشرعية، ولكنّهمباعتبارهم مسلمين نظروا في دينهم نظرا حرّا مع امتلاك الأدوات المنهجيّة لذلكالنظر، فتوصّلوا إلى أفهام في جملة من قضاياه تحمل من الحقّ لمّا عبّروا عنهاتعبيرا حرّا أيضا ما جعلها تحدث تغييرا إصلاحيا واسعا.
ولكنّنا في ذات الوقت لا نرى من مبرّر لموقفكثيرين لم يمتلكوا من الأدوات المنهجية ولا من الشروط الموضوعية للنظر في الدينشيئا، ثمّ هم باسم حرّية الرّأي الديني يتصدّون للإفتاء الأكبر في أمّهات القضاياالدينية، بل قد يتصدّون أيضا للإفتاء في تفاصيل الأحكام الجزئية ذات الطبيعةالتقنية الدقيقة، فإذا هم يصدرون من الآراء والأفهام والأحكام ما يعبّرون عنه علىأنّه من حقيقة الدين ومن مقتضيات مقاصده، ولكنّه في حقيقته لا يعدو أن يكون من محضآرائهم هم التي اخترعوها أو استجلبوها، ثمّ أظهروها على أنّها فهم ديني ناشئ منالنظر الحرّ في مصادر الدين، فكان ما انتهوا إليه بفقدانهم للشروط المنهجيةوالموضوعية أقرب إلى العبث منه إلى الجدّ، وإلى الإسقاط منها إلى التفكير الحرّ.
وبين الميل إلى ذاك التخصيص لحرّية التفكيرالديني والتعبير عنه، والميل إلى هذا التعميم المتفلّت من القيود المنهجية الموضوعية يمكن أن تستوي المعادلة بما استوت عليه في بادئ أمرها، وذلك بأن تكونالحرّية في الرّأي الديني تفكيرا وتعبيرا حقّا مشاعا للمسلمين عامّة، غير محصور فيأفراد أو فئات منهم على أيّ اعتبار من الاعتبارات، وأن يكون ذلك الحقّ مشروطابامتلاك أسبابه المتمثّلة في التوفّر على الحدّ الأدنى من الشروط المنهجية التيتمكّن من النظر في الدين للتوصّل إلى أفهام في أحكامه ومقاصده ومقتضياته.
وإذا ما استوت المعادلة على هذا النحو،فاكتسى النظر الحرّ في الشأن الديني الإخلاص والجدّية، وابتعد عن الدسيسةوالعبثية، فلا ضير أن تنتج تلك الحرّية تعدّدا في الاجتهادات والآراء، مهما يكنذلك التعدّد بالغا مبلغ التقابل أو التناقض؛ لأنّ الحكم في سوق الحوار الدائر بينتلك الاجتهادات والآراء سيكون هو سلطان الحجّة العلمية نقليّة وعقلية، وسيكون لهذاالسلطان قوّة الفرز بين ما هو صحيح فيبقى وما هو خاطئ فيبطل، وبين ما هو راجحفيُعمل به وما هو مرجوح فيُحفظ في الذاكرة الثقافية عسى أن يرجح في يوم مّا أو فيظرف مّا فيعمل به، وتلك هي الآلية التي ازدهرت بها الثقافة الإسلامية، وأثرى بهاالتراث الفقهي والعقدي بتعدد المذاهب ثراء تباهي به الأمّة الإسلامية الأمم، وهيالآلية ذاتها التي يمكن أن تعيد الفكر الديني إلى سالف عهده الثريّ

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire